الفكر الإسلامي

 

 

 

 

 

السلام العالمي في القرآن الكريم

بقلم:  محمد عبد الغني علوان النهاري              

الجمهورية اليمنية – صنعاء                     

رقم التلفون في الهند: 09645787575   

          عنوان الإيميل: abueelaf@gmail.com      

 

 

 

 


        تُعْتَبَر الإنسانية إحدى  أبرز خصائص ديننا العظيم، فليست مجرد أمنيات ولا شيء مثالي خيالي، ليست كلمات تُكْتَب أو حبرًا مسطرًا في الأوراق، لا، بل هي ركنٌ عقدي وواقع تطبيقي، وثمرة من ثمار هذا الدين العظيم.

        فمِن ثمرات إنسانية ديننا مبدأُ الإخاء الإنساني ونشر السلام كمبدأ أساسي وركيزة تقوم عليها أسس هذه الدين القويم، الذي بضعفه وغلبة التيارات المناوئة للعنف والصراع ضاعت وفقدت في واقع حياتنا وعالمنا المعاصر، هذا السلام الذي نبحث عنه اليوم قد أعلنه القرآن الكريم قبل ألف وأربعة عشر قرنًا من الزمن، لخصها قوله تعالى: (يٰاَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)(1)، أما رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم فيكفينا قوله: (أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ إِخْوَةٌ)(2)، وفعله لما قام لجنازة رجل يهودي، فسأله الصحابة عن ذلك قال: (أليس إنساناً)(3)، هذه العظمة التي قصدها نبي المسلمين هي الأخوة الإنسانية، حيث أقام على أساسها مجتمعاً ربانياً إنسانياً فريداً، اضمحلَّتْ فيه فوارق الجنس واللون والقبيلة والطبقة. مجتمعًا مسالماً متآخياً يحترم الإنسان ويكرمه، وهذا ما سنحاول برهانه في هذه الوريقات بمشية الله تعالى وتوفيقه.

        واليوم أصبح السلم والسلام العالمي اليوم حديثاً من الدرجة الأولى بالنسبة للاهتمام العالمي وعلى مختلف المستويات. خاصةً مع ما نشاهده اليوم من أحداث العالم المتسارعة من صراع وحروب ودمار. هذا الصراع الذي يشهده عالم اليوم تختلف  أسبابه و إيديولوجياته ومراميه، سواء كانت نفسيةً، أو اجتماعيةً أواقتصاديةً، أو ثقافيةً أو دينيةً؛ لأن الدين يعتبر اليوم أحد أطراف اللعبة السياسية القائمة على مبدأ السلم والحرب؛ ولأنه وسيلة وسلاح ذو حدين في ترجيح إحدى كفتي هذه القضية إما عاملاً من عوامل إرساء القيم والمبادئ السلمية، إذا كانت ثقافةً سلميةً، وإما معول هدم للجانب الحضاري والإنساني للشعوب عند انحراف مساره إلى دائرة العنف والصراع.

        ومن هذا المنطلق يبرز سؤال يطرح نفسه: هل القرآن الكريم لديه القدرة على إرساء معالم السلم العالمي؟ وكيف يمكنه الحفاظ على أمن واستقرار الدول لرسم معالم عالم ينعم بالسلم و السلام؟ هل للقرآن الكريم تصور للموضوع يلبي حاجات البشرية اليوم مسلمهم وكافرهم؟

        شاءت قدرة الله تعالى أن تكون رسالة محمد آخر الرسالات في عمر البشرية الطويل الذي امتد في أعماق التاريخ حقباً عديدةً، معلنةً، هذه الرسالة وصاية السماء على الأرض من خلال إكمال الدين وهيمنته على الكتب السماوية: «وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتٰبَ بِالْـحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»)(4). هذا المشروع الاستكمالي لجهد أنبياء الله ورسله جاء ليقول للبشرية: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرٰهِيمَ وَمُوسٰى وَعِيسٰى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ»(5) (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»(6)، جاء ليؤسس اللبنة الأخيرة في صرح النبوة، حيث يكتمل المشروع بختم النبوة وميلاد عصر السلم الذي سيرافق مسيرة التطور والتقدم التي ستعرفها الإنسانية إلى ما شاء الله: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعٰلَمِينَ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ»(7). جاء ليختم الجهد البشري الشاق الذي بذله المصلحون من قبله بخاتمة السلم الذي يعتبر نهايةً مرضيةً لجميع العالمين ويكون هذا المرشد هو مرشد السلم والسلام متمثلاً بمنهج سلم وشخصية سلمية حيث قال صلى الله عليه وسلم: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين)(8).

        إن الخطاب القرآني خالف خطابات الأنبياء السابقين التي كانت خطابات اصطفائية مُوَجَّهَةً إلى أمم مُصطفَاة أو قرًى مُختارَة. جاء الخطاب القرآني خطابًا عالميًا تدرج من الرسول- صلى الله عليه وسلم - إلى عشيرته الأقربين،ثم إلى أم القرى ومن حولها، ثم إلى العالم كله. وبهذا صار الكتاب الوحيد الذي يستطيع أن يواجه الحالة العالميَّة الراهنة بكل تعقيداتها وصراعاتها وحروبها.

        عندما نعيش التجربة القرآنية لنستخرج الجانب الإنساني من خلال مقاصد بعض آياتها لنستلهم منها جانب السلام والسلم ونبذ الجانب المظلم المتمثل في الصراع وحب الاستيلاء والقتل: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْـمُتَّقِينَ* لَئِنْ بَسَطْتَّ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ* إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظّٰلِمِينَ* فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخٰسِرِينَ)(9) هذه القصة تسعى لترسيخ مبدأ السلم والسلام باعتباره مبدأً إيجابياً يرسخ في النفس الإنسانية ثقافة السلم تمثلت في شخصيتين، أحد طرفيها متمثل لشخصية المتقي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنىً. هذا الشخص المتقي كان يؤمن بعدالة قضيته ولو كان نتيجة هذا الإيمان أن يضع حدًا لحياته.إبقاءً للمبدأ والفكرة التي يحملها وهي السلام، فإيمانه نابع من رؤية إنسانية تنبذ العنف وتكره الخوض فيه باعتباره يجافي المبدا الأسمى مبدأ السلام والأمان، أما الطرف الآخر فيمثلها تلك النفس المجبولة على الصراع والصدام، و المتمثلة في الأخ المؤمن بأن القوة والصراع يكون دائماً مسلكاً إيجابياً لجلب الحقوق أو دفع الضرر، دون الاكتراث بما قد تؤول إليه عواقب الأمور، متمثلةً بالإيمان بجانب المادة وغلبتها حتى وإن جانبت الصواب والحق والعدل والسلم.

        في ضوء هذه الأيات نعيش مع القرآن أمام خيارين أحدهما: خيار العنف والصراع الذي يصفه بأنه تطويع النفس الإنسانية، وغرور بمصدر القوة بصفتها حلاً ممكناً لإنهاء القضايا العالقة. والخيار الثاني: هو الحل السلمي الواسع الأفق، والضارب في أعماق المستقبل. هذا الحل الذي يحتاج إلى نفس تقية تؤمن بعدالة قضيتها دون أن تحتاج إلى من يدافع عنها، أو يحمل سلاحاً تتلطخ به دماء الأبرياء: «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوْقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للِّصّٰبِرِيْنَ، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ إِنّ اللهَ مَعَ الَّذِيْنَ اتَّقَوْا وَّالَّذِيْنَ هُمْ مُحْسِنُوْنَ»(10).

        وقد اتخذ القرآنُ أساليب كثيرةً لدعم بناء السلام العالمي المنشود وتعميق أواصره، عن طريق أداء الحقوق لأصحابها، وعدم العدوان على أي مخلوق، مع الإنسان والحيوان، والفرد والجماعة، وبين الأبيض والأسود، وكل أبناء البشرية، حتى مع الأعداء المحاربين فيما إذا قبلوا السلام، وأن لا تراعى في نصرة العدالة والحق أي عاطفة نحو حبيب أو قريب، ولو اضطر الإنسان أن ينصر الحق على نفسه، فقال القرآن الكريم: (يٰاَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِله وَلَوْ عَلٰى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلٰى بِهِمَا)(11) وأما عن إقامة العدل مع الأعداء فقال: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ - أي بغضكم لقوم – عَلىٰ أَلَّا تَعْدِلُوْا اِعْدِلُوْا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوٰى)(12).

        أما السلام العملي المتمثل في القدوة العملية  في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان في تعميم الإحسان، والحب، والإخاء، في المجتمع العالمي الإنساني خير دليل على سلامه ودعوته له. وما السفراء الذين أرسلهم وما كتاباته لملوك العالم إلا مثالاًودليلاً قاطعاً على عالمية هذه الرسالة والحب منه أن يعم الناس جميعهم سلام شامل، ولهذا قال الله عنه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعٰلَمِينَ)(13). جعله الله رحمةً مهداةً للعالمين، روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنا رحمة مهداة)(14)، ويكفينا استشهادًا لهذا السلام عند الصحابة الكرام أنه لما ضرب «ابن عمرو بن العاص» فاتحِ مصر قبطياً، ظلماً وعدواناً، وشكاه القبطي إلى عمر بن الخطاب خليفة المسلمين استدعى عمر بن الخطاب عَمْرواً وابنه إلى المدينة، وأمر القبطيَ النصرانيَ أن يَضْرِبَ ابن عمروٍ، ابنَ فاتح مصر، فضربه القبطي، فقال عمر للقبطي: لو ضربت على رأس أبيه لما منعك منا أحد، ثم التفت عمر إلى عمرو معنفاً، وموبخاً، وقائلاً له كلمته التاريخية: (متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)(15). ومما يدل على البعد العالمي السلمي للخطاب القرآني، أنه تميّز خطابه بالعالمية، حيث صيغ صياغة العموم والشمول المستوعب للإنسان كل الإنسان فلم يخصص سلميته لمعتنقيه ومريديه بل جعلها عامةً وشاملةً لعموميته وشموليته، فلو نظرنا إلى خطاباته لرأيناها تخاطب الجميع.

        فالناس: هي أكثر العبارات ورودًا في النصّ القرآنيّ (241 مرّة) وهي موزّعة بنسب متفاوتة بين آيات مكيّة وأخرى مدنيّة. وتستعمل أحيانًا اسم جنس لكل البشر وعندئذ تكون لفظة ذات دلالة عامة، وأقرب لما ذهب إليه ابن منظور حين ذكر أنّها جمع لكلمة إنسان(16). لكننا نجد استعمالات أخرى تخصص به المعنى العام؛ الأوّل: مجازيّ يكون إشارةً إلى قوم مخصوصين لا يراد تحديدهم فيورّي عن ذكرهم صراحةً باستعمال ما يسميه البلغاء إطلاق الكلّ وإرادة الجزء. عندئذ تستعمل كلمة الناس ويقصد بها المهاجرون والأنصار، كما تعني في آية أخرى المنافقين (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)(17) أو بني إسرائيل: (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)(18).

        ذهب علقمة (ت.62/681) إلى أنّ لفظة «الناس» مع النداء «يأيّها» تكون مؤشرًا على أنّ الآية مكيّة وأنّ المقصود بالخطاب عموم أهالي مكّة. وقال مجاهد (ت.104/724) آية «كان الناس أمّة واحدة» بقوله: إنّ الناس تعني آدم؛ لأنّه أصل النسل(19)، فخطابه لعموم الإنسان، كقوله في معرض الوصية بالوالدين: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسٰناً)(20)، وكقوله في معرض بيان مسؤولية الإنسان عن نتائج أعماله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَاسَعٰى)(21)، وقوله: (يٰاَيُّهَا الْإِنْسَـانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلٰى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلٰقِيْهِ)(22)، فالوصية والمسؤولية تخاطب عموم البشر في هذا الكون أينما وجدوا، فكل إنسان مُطَالَب بالإحسان إلى الوالدين، وكذلك كل إنسان مسؤول عن نتائج أعماله من خير أو شر.

        وخطابه لعموم الناس على اختلاف أجناسهم وأعراقهم ولغاتهم وأوطانهم، كالأمر بعبادة الله تعالى في قوله: (يٰأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوْا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ)(23)، وكالأمر بالأكل من الحلال الطيب، في قوله: (يٰأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوْا مِمَّا فِيْ الْأَرْضِ حَلٰلاً طَيِّباً)(24)، وكالأمر بالتقوى في قوله: (يٰأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوْا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَّاحِدَةٍ)(25)، فهذه النصوص تخاطب الناس عامةً، فهم مأمورون بعبادة خالقهم الذي خلقهم، ومأمورون بالأكل مما رزقهم من الحلال الطيب ومأمورون بالخوف منه وتقواه.

        إنّ المقصود بهذا الخطاب البشر جميعهم في أي مكان وزمان، ولن  يدرك مكنونات هذا الكتاب وأسراره التي لاتنكشف إلّا بمزيد التأمل والتدبر الذي لايؤتيه كل الناس، بل هو من خصوصيات النّخبة المفكّرة العالمة، التي يقع على عاتقها أكـبر واجب في الفـهم والتفسير لنصوصه بما يتلاءم مع روح العصر ومقتضيات المرحلة الراهنة، وكذلك إزالة الشبهات التي علقت في أذهان الناس بما تروجه الآلة الإعلامية المتمثلة بالعولمة الغربية الداعية إلى فرض مشروعها التغريبي علـى العالم، في غياب المشروع القرآني المهمل من قبل أتباعه، والمتّهم من قبل أدعيائه. فالقرآن لم ينزل لوقت موقّت كما يروّج لــه بعض المنهزمين والمنخدعين بالحضارة الغربية المعاصرة، الذين يدّعون أن الخطاب القرآني تجاوزه الزمن، ولا لفئة من الناس دون فئة، ولم يكن داعياً للحرب بادئاً بها؛ فهذه الفرية تكذّبها شهادة التاريخ ذاته والحضارات المتعاقبة عبر الزمن، حيـث استطاع الخطاب القرآني استيعاب قضايا الشّعوب التي وجدت فيه الرّحمة والعدل والحرية. وإنه قادر اليوم أيضـاً على إعـادة التاريخ عندما تحين الظروف والأسباب الملائمة.

        ولعلنا نجمل ونلخص أبرز المرتكزات التي دعا إليها القرآن لتعميق جانب السلام العالمي لتتمثل واقعاً في حياة البشرية وتُطَبَّق وهي على سبيل المثال لا الحصر:

        1 - وحدة الأصل الإنساني: ومن ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)(26).

        فأصل البشر واحد على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأعراقهم.

        2 - البشرية كلها تجتمع في مسألة الكرامة الإنسانية: هبة من الخالق - جل وعز - لايحق احتكاره لجنس دون جنس أو لعرق دون عرق، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنٰهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنٰهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)(27).

        3 - الاختلاف الشكلي- اللون والبشرة والألسن - إنما هو اختلاف تنوع لا تضاد: قال تعالى: (وَمِنْ آيٰتِه خَلْقُ السَّمٰوٰتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيٰتٍ لِلْعٰلِمِينَ)(28).

        4 - المطلوب شرعاً التعارف والتواصل لا التقاطع والتصارع: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنٰكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقٰكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(29) وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب بمكة فقال: (أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عُبّية الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان، رجل برّ تقي كريم على الله، وفاجر شقي هيّن على الله، والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب ...)(30).

        5 - تقرير قاعدة لا إكراه في الدين: فلا يحق لأي من كان أن يكره الناس على الدخول في دينه أو إلزام من كان لمعتقد يعتقده لمن لا يدينون به تحت أي مبرر، كما لا يجوز لنا شرعاً أن نتخطى منهج النهي الصريح (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ..)(31).

        6 - فرضية العدل والقسط بين البشر وتحريم الظلم والجبروت: فمهما اختلفت الأديان والأعراق والأجناس فلا بد من التحلي بهذا المبدأ والتخلي عن العكس؛ لأن الله يقول في محكم آياته: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(32).

        7 - اتخاذ مبدأ الوفاء بالعهد:  إذ يُعَدُّ من أهم مرتكزات تعميق جانب السلام العالمي المنشود مع كل الطوائف والأديان، يقول تبارك وتعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)(33). وقال: (وَالْـمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا...)(34).

        هذه بعض الملامح الدالة على أهمية السلام العالمي في الخطاب القرآني، وأن الله تعالى قصد من خلق العالم وإيجاده إقامة نظامه العالمي الموافق لأبعاد القرآن العالمية، فالقرآن تجاوز في خطابه الرؤية الضيّقة للجنس والعشيرة والقبيلة، كما تعدّى في حدود خطابه من أنزل فيها، وهم العرب، إلى الأفق العالمي المتّسع لكل القوميات والشعوب، فإطلاق نصوصه وعموميته شاهد على ذلك. كما راعى في خطابه كل المتغيرات التي تطرأ على الأوضاع البشرية والعمرانية، فجـاء مرناً في أحكامـه مفتوحـاً على المتغيرات والتحوّلات، منسجماً مع المستجدّات؛ ليتمكّن كلّ جيل من العمل بأحكامه وقوانينه.

        وهذه إحدى المعجزات القرآنية الخالدة التي انفرد بها هذا الكتاب على غيره من الكتب التي لم يُكْتَبْ لها الخلود والشّهود.

*  *  *

الهوامش:

(1)            سورة النساءء: 1.

(2)            روى الإمام أبو داود عن زيد بن أرقم وأحمد في مسنده.

(3)            رواه سهل بن حنيف وقيس بن سعد المحدث: مسلم المصدق: صحيح مسلم الصفحة أو الرقم: 961.

(4)            المائدة: 3.

(5)            الشورى: 13.

(6)            النحل: 123.

(7)            ص: 88.

(8)            رواه البخاري كتاب المناقب، باب (خاتم النبيين)، وروى مسلم نحوه كتاب الفضائل، باب (ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين).

(9)            المائدة: 27، 28، 29، 30.

(10)    انظر ثقافة السلم العالمي بين القرآن الكريم والثقافة الإسلامية لهريمة يوسف، الحوار المتمدن، العدد 1753-3/12/2006م، االمحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني.

           http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=82328.

(11)        سورة النساء: الآية: 135.

(12)        سورة المائدة: الآية: 8.

(13)        سورة الأنبياء: الآية: 107.

(14)        المستدرك (1:35): وصفححه على شرطهما واقره الذهبي   مجمع الزوائد 8:25.

(15)        ابن عبد الحكم في «فتوح مصر» (ص290)، قال: حُدِّثنا عن أبي عبدة، عن ثابت البناني، وحميد، عن أنس، قال: أتى رجل... فذكر القصة.

(16)        ابن منظور، لسان العرب فصل (أ. ن. س.)

(17)        البقرة: 8.

(18)        آل عمران: 21.

(19)        انظر تفسير الطبري، البقرة: 213.

(20)        الأحقاف: 15.

(21)        النجم: 39.

(22)        الانشقاق: 6.

(23)        البقرة: 21.

(24)        البقرة: 168.

(25)        النساء: 1.

(26)        النساء: 1.

(27)        الإسراء: 7.

(28)        الروم: 22.

(29)        الحجرات: 13.

(30)    أخرجه الإمام أحمد في المسند (8736) وأبوداود في سننه (5116) والترمذي في الجامع (356) وقال: حسن غريب، ونقله القرطبي في أحكام القرآن 16/341، طبعة دار الفكر بيروت.

(31)        البقرة: 256.

(32)        النحل: 90.

(33)        الإسراء: 34.

(34)        البقرة: 177.

 

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربیع الثانی  1435هـ = فبرایر 2014م ، العدد : 4 ، السنة : 38